الشاعر : مريد البرغوثي
عدد الصفحات : 143
نبذة عن الديوان
إني لأخجل أن أقول أني عرفت هذا الأديب و الشاعر العريق من خلال ابنه تميم البرغوثي. ينطبق على الاثنين مقولة : "هذا الشبل من ذاك الأسد". و في حالة تميم : "هذا الشبل من ذاك الأسد و تلك اللبؤة (رضوى عاشور)".
قرأت أول ما قرأت لمريد البرغوثي كتاب "ولدت هناك، ولدت هنا"، و فيه يسرد الكاتب بعض ذكريات حياته المحفورة في ذهنه، و يستغلها ليسلط من خلالها الضوء على قضايا أكبر تهم الفلسطينيين و العرب عموما. و كنت قد خططت أن أقرأ له شعرا أيضا، و هذا ما فعلته حينما عرفت أنه أصدر ديوانه الأخير في 2018.
يحمل الديوان عنوان "استيقظ حتى تحلم"، و هو مقسم إلى ثلاث أجزاء. الجزء الأول يضم قصائد تناقش أفكارا كثيرة كالموت و الحياة و مفهوم الخلود، و يخاطب فيها التاريخ و الحرب، و يصف فيها براءة الطفولة و بشاعة الظلم و القهر، و يستنكر فيها الخضوع و الاستسلام و يدعو فيها إلى الحرية و الثورة. و هو يركز عموما في هذا الجزء على فكرة الإنسان و على صفاته و قيمه و مبادئه. و في نهاية هذا الجزء خصص البرغوثي قصيدة كاملة للشاعر الكبير محمود درويش يعبر فيها عن شوقه له و لشعره.
أما الجزء الثاني فقد عنونه ب "منطق الكائنات، مرة أخرى"، و في كل قصيدة من هذا الجزء يتحدث الشاعر على لسان شيء ما، فجعل الدقائق ترثي على ضياعها في ما لا يفيد، و القلعة تستغرب من اختزالها إلى مكان سياحي لا فائدة منه، و الظل يشتكي من صاحبه، و بنفس الطريقة أنطق الدرج و الغيمة و السلم و النافذة و الباب و البصلة و البرتقال و المصباح السحري و غيرها من الأشياء.
الجزء الثالث "وثيقة" أهداه الكاتب لرفيقة دربه و زوجته الراحلة الأديبة و الشاعرة رضوى عاشور. و هو في هذه الوثيقة يحكي عنها و عن مسيرتها الأدبية و نضالها المستمر في وجه الطغيان و الظلم و انتصارها الدائم للمظلوم بالرغم من ضعفها و هشاشة صحتها. و يدعو الشاعر نفسه لأن لا ينشغل عنها بالحزن عليها، لأنها بالنسبة له و لقرائها و محبيها ما زالت حاضرة بأعمالها و إنتاجاتها. فالأولى إذن أن يسعوا إلى إكمال مسيرتها و يركزوا على نشر أفكارها و ما حاربت من أجله، فهي "تركتهم لا ليبكوا بل لينتصروا".
فيما يلي بعض المقتطفات التي أعجبتني من الديوان.
مقتطفات
مقتطفات من قصيدة "فليحضر التاريخ"
فليحضر التاريخ فورا
و ليلغ موعده مع الحرب التي ستجيء أو
مع أي سلم مفترض
و مع القضايا العالقات بحبره و حرابه
و إذا تذرع بانشغال أو مرض
و إذا اعترض
سأجره بيدي إلى غرف المعيشة بيننا
و أدير سهرته أنا
ليرى لأول مرة ولدا له وجه، له صوت
له جسد حقيقي، له اسم ثلاثي
يمارس يومه العادي بين يديه،
سوف أهيئ الأقلام و الأوراق:
اكتب ما ترى.
...
أعد الرواية من جيوب لصوصها
فرواية المظلوم تسرق كالرغيف و كالمخازن
لا تعرفنا كأضداد لخصم أنت قد صادقته
و كأننا من قبله غيم تبدد أو ظلال و ظنون
و كأننا من قبله شبح بلا جسد
...
لسنا نشرة الأخبار
بل لسنا مجرد "خصمهم"
بل نحن "نحن".
لنا صفات قبل أن يصلوا و بعد رحيلهم.
...
اذهب و فكر في الذي شاهدت
لا تقدح و لا تمدح و لا تشفق علينا
لا تقل كانوا ضحايا
بل نضحي كي نكون.
مقتطفات من قصيدة "طاعة الماء"
كم سهرا و كم مهارة
و كم تخصصا و كم ترددا و تضحية
تحتاج إن أردت صنع آلة رخيصة أو غالية؟
و كل ما تحتاجه إذا أردت صنع طاغية
أن تنحني.
لا ليس خرتيتا و ليس معجزة
بل ربما يشبهني و يشبهك
و هذه ليست كما حسبتها، أظلافه
بل إنها أظافر عادية،
كأنها أظافري،
كأنها أظافرك،
نعم.
و ليست هذه حوافره
بل إنها حذاؤه، مقاسه ثمانيه،
أو تسعة كما أظن
نعم.
و وزن جسمه، ليس كما تراه، نصف طن،
بل مثلنا، سبعون، قل تسعين، كيلوغرام
و ليس هذا قرنه، بل أنفه المرفوع واثقا،
حتى و إن أصابه الزكام
نعم. و إنه يصيبه الزكام
نعم. و قد يصيبه، كما يصيبك، النزيف.
هو لا يأتي من أكتاف الغيمات إلى كرسيه
بل من أكتافك أنت و أكتافي
و يدلي رجليه على سرج الوقت
و أؤكد أن لديه رجلين فقط لا ست.
قصيدة "القبطان"
أرى خشبا طافيا بجواري
و قرب القريبين مني
و لكننا قد غرقنا تماما
و هل يغرق المرء إلا تماما؟
فقبطان رحلتنا راح يلقي بنا
واحدا بعد آخر من سور باخرة
كم رقصنا بأعيادها
ليكون الوصول له وحده
أو لمن كان يشبهه
أو لمن صار يشبهه
أو لمن سوف يشبهه
و السفينة، ركابها الآن أعداؤها
و الطريق اختلف
تأخر عن وقته كل شيء
تبكر عن وقته كل شيء
و هذا التلف
جديد قديم
و وجهتنا لم تعد واحدة
مقتطفات من قصيدة "أعرفهم"
أعرفهم
مهنتهم إطلاق النار على الفكرة
لكن،
أين تقيم الفكرة بالضبط؟
أتقيم الفكرة في البيت؟
كم رفعت بنت يدها في ليل الأنقاض
تنادي: يوجعني السقف
أتقيم الفكرة في الحقل؟
في الشمس الفكرة أم في الظل؟
في صبح الديك الصائح أعلى التل؟
...
هل تحيا الفكرة في القتلى؟
فلنقتل كل مقابرهم،
فليمت الموتى ثانية
أعرفهم
أخذونا للموت مرارا
أخذونا للموت جماعات و فرادى
و الدهر مقيم
و اللغز مقيم.
مقتطفات من قصيدة "نسخ"
الذي في باله ليس أنا
بل نسخة عني
هو الذي كونها في رأسه
فيها القليل غالبا
أو ربما الكثير من حقيقتي
و ظن أنها أنا.
...
و غيره لديه نسخة ثانية،
ثالثة و عاشرة.
...
و عندما حاولت فهم اللغز
أدركت أني كالعملة المزورة
تبدو كأصلها لكنها بعيدة
ثم انتبهت أنني كررت فعلهم
و ربما صنعت كل واحد
على هواي لا على هواه
ألفته كما ألفني،
زورته كما زورني،
عاملته كأنه سواه
لا يعرفونني بالضبط
و لا أعرفهم بالضبط
و هكذا احتملت مثلهم
هذي الحياة
مقتطفات من قصيدة "لا أحب"
الاستقامة مثلا
ما معناها عندما يتعلق الأمر بالقرميد
هل ينفع القرميد إلا إذا كان مائلا؟
...
الإحسان مثلا
أنت راضيا و واثقا، تدعوني إليه
و أنا، متشككا في ثقتك و رضاك،
لا أريد ن تظل اليد السفلى في مكانها
و اليد العليا في مكانها
لهذا أنت تعين وزيرا
و أنا
أفكر في ما يجب
مقتطفات من قصيدة "كشرفة سقطت بكل زهورها"
خذنا إلى الكحلي يا بحر البلاد
و طف بنا في العالم المفتوح،
أسمعه ارتعاشتنا
و قصتنا المقيمة في دفاتر شاعر
مذ غيبته الأرض سلمت العيون بما رأت
و قلوبنا لم تعترف بغيابه.
و كأنه إذ مات أخلف ما وعد.
و كأننا لمناه بعض الشيء يوم رحيله.
و كأننا كنا اتفقنا أن يعيش إلى الأبد.
"محمود ابن الكل"، قالت أمه،
و تراجعت عن عشبه، خفرا، لتندفع البلد.
...
و بنيت موطننا على جبل المجاز
فكان أجمل من خيال العسكري
و كان أعلى من لحى الفقهاء
أوضح من فصاحات المفاوض
كان أوسع من ميادين القتال
و كان أضيق من تقاتلنا عليه
و كان بيتا سيدا يغري الحدائق
رغم حزن آدمي
و البنات على الطريق إليه أذكى
و الشباب على مداخله حقيقيون
...
الموت حين يباغث الشعراء
يستولي على "أقلامهم"
لكنه لا يأخذ "الأوراق" من عظمائهم
لم يكتمل يوما حوار بين شاعر أمة
و زمانه،
فهما معا في لعبة أدبية
بين الخصام و الانسجام،
من مطلع الإيقاع تبدأ
ثم تبدأ بعد قافية الختام.
قصيدة "قالت الدقائق"
أنا أثمن من أن تبددني
في مناقشة هذا المتعصب السعيد
دعه يذهب في سبيله
لا تحاول إقناعه بشيء
شجرة البلاستيك
مهما رويتها
لا تنمو عليها ورقة واحدة
قصيدة "قال السلم"
لماذا اخترعتموني
إذا كنتم تفضلون
أكتاف بعضكم؟
قصيدة "قالت البصلة"
هذا السيد بصلة
السطح المفضي للعمق
هو العمق المفضي للسطح
لا تبحث عن أي نواة أو مركز
لا تبحث عن أي دم و روح
لا تبحث عن أي عناصر أخرى في البصلة
لا تبحث عن أي صفات أخرى في هذا السيد
يكفيك تأمله
إذ يلقي، و الحراس يحيطون به، خطبته
و الناس
بعيون بللها الدمع،
تصفق للعطر الطيب:
بالروح و بالدم سنفدي هذه البصلة
آمال