الكاتب : مريد البرغوثي
عدد الصفحات : 283
مقدمة
هذا أول كتاب أقرأه لمريد البرغوثي و أظن أنه لن
يكون الأخير. يصور الكاتب في كتابه هذا لقطات من سيرته الذاتية و يصف أحاسيسه و أفكاره
الشخصية تجاه المواقف التي تعرض لها في فترات متفرقة في حياته، و لكنه يتجاوزها ليسلط
الضوء على قضايا و مواضيع تهم الشعب الفلسطيني خصوصا و العرب و المسلمين عموما.
و لأن سيرة ذاتية لا يمكن اختزالها في ملخص، و إلا
أصبحت كمقال في الويكيبيديا مجرد من كل الأحاسيس، فقد ارتأيت أن نشر مقتطفات من الكتاب
سيكون أكثر نزاهة في التعريف بما أراد الكاتب أن يعبر عنه في كتابه. و اختياري لهذه
المقتطفات لا يعني أني متفقة مع مضمونها بالضرورة بل كان مبنيا على مدى صدقها
و عمقها، أو حكمتها، أو بلاغتها، أو لأنها تطرح مواضيع قابلة للتأمل و التفكير.
مقتطفات
بطل فلسطيني آخر
أقول هذا الشاب الفلسطيني يحاول صنع معجزة صغيرة
دون أي يدري، يمارس بطولة لا يعلم أنها بطولة. هو سائق موظف، يريد أن يتقن عمله الروتيني
الذي يتقاضى منه مرتبه الشهري. الآن هو قائد هذه الرحلة و لا يريد أن يخذلنا. نحن الآن
شعبه الكامل المكون من شيخ و امرأتين، سافرة و منقبة و رجل قصير القامة و آخر بدين
و طالب جامعي و شاعر يدهشه ما يرى و لا يريد خدشه بالكلام.
سألت نفسي ماذا لو كنت مكانه؟
هل أستطيع أن أكون قائدا لهذه الرحلة؟
طبعا لا أستطيع.
أنا كاتب. يعني أنا لا أفعل شيئا. أليس هذا بائسا؟
أم أنني أسارع بلوم نفسي كعادتي كلما ساءت الأمور
من حولي؟
كم مرة تمنيت لو أنني تعلمت صنعة ما، مهنة يدوية،
أليس جميلا أن يكون المرء ميكانيكيا، حدادا، مزارعا، نجارا، مهندسا، طبيبا، أو حتى
عامل بناء قوي العضلات يرتقي مع كل طابق إضافي إلى مرتبة أعلى و يطل على كسل المدينة
من فوق، دون أي فضل من أحد، فهو الذي رفع إطلالته بعرق يديه و رأى ما يرى الصقر، حتى
و إن غادر مجده و عاد منسيا بعد ليلة الافتتاح؟
بعض الشكر يبخس الفضل
أنا معجب باتزانه و حسن تدبيره، بل إن سلوكه و حيويته
و شبابه و ثقته تورطني الآن في نوبة تفاؤل في أن الفلسطينيين هم الأقوى في هذا الصراع
الطويل مع الاحتلال. كل ما أريده الآن هو الاهتداء إلى وسيلة أشكر فيها هذا الفتى دون
أن أجرح فعله بكلام يقلد الكلام.
في لحظة معانقته لي أقرر أن الصمت هو أفضل ما لدي.
في أقل من ثانية أطرد فكرة عابرة بتقديم مال إضافي
لهذا الشاب.
أتأمل مفارقة عجيبة: قد يدخل المرء بسهولة في مشاجرة
مع خصم و قد ينزلق بلا تفكير إلا التلفظ بأبذأ الكلمات التي قد يندم عليها بعد حين،
لكنه يجد صعوبة عند اختيار كلمة طيبة للثناء على صديق، فبعض الشكر يبخس الفضل أحيانا.
و هذا ما أخشى ارتكابه الآن.
أنا أغار من عزمه و قدراته، و أنا معجب به لدرجة
الاعتزاز. و لا يمكنني أن أقول له ذلك لأن في العبارة مسحة من التعالي أو الأبوية أو
التراتبية التي تلغي التساوي الإنساني. و هل يمكن أن أوصل له هذا الاعتزاز ... بالبقشيش؟
......
لا أقول لمحمود شيئا. أقول لنفسي: سأكتبه. سأكتب
السائق محمود. سأسجل ما فعله بالضبط. كما فعله بالضبط. سأكتبه. هذا واجبي. أنا كاتب
و هذا عملي. قام هو بعمله، و ذات يوم سأقوم أنا بعملي أيضا. و ها أنا أفعل.
تعايش مستحيل
يسألني كثير من الصحافيين في الغرب الذين يتجاهلون
الاحتلال الإسرائيلي تجاهلا مدروسا و خبيثا أيضا إن كان الشعب الفلسطيني مستعدا حقا
للتعايش مع اليهود، فأرد بأننا نتعايش معهم طوال مئات السنين في فلسطين و البلاد العربية
و الأندلس، و أن أوربا التي تلومنا و تحاسبنا هي التي لم تستطع التعايش معهم و هي التي
أرسلت ملايين منهم إلى المحرقة بلا رحمة، لكن المطلوب منا اليوم، و منذ احتلالهم العسكري
مع أراضينا، هو التعايش مع دباباتهم في غرف نومنا! أقول لهم دلوني
على إنسان واحد في هذا العالم يستطيع العيش مع دبابة في غرفة نومه.
إحساس بالعجز
هذا هو المعبر إلى فلسطين.
المعبر هو مكان خوف الكل على الكل. مكان الغموض
المرهق للأعصاب. هنا قرارات لا يفسرها لك أحد، إجراءات لا تعرف طبيعتها أو مداها يمارسها
ضدك بشر لا سلطة لك عليهم و لا سلطة لأحد فوق سلطتهم. هنا يربض ذئب قوي البنية حاد
البصر، ذئب لا تعرف إن كان سيفتح فكيه قافزا باتجاهك أنت أم يمر بمحاذاتك لينهش جارك
في الطابور. لا تكاد تفرح لنجاتك منه حتى تحزن لانقضاضه على غيرك. ثم إنك لا تأمن انقضاضه
في أي اتجاه إلا بعد أن تخطو بقدميك سالما خارج المكان.
المعبر يعطل أبوة الآباء و أمومة الأمهات و صداقة
الأصدقاء و عشق العشاق. هنا تصعب ممارسة الحنان. هنا تنتفي فرصة التضامن و النجدة.
هنا لا أستطيع مساعدة ابني أو حمايته كأب.
خوف جائز
أنا مطمئن بشأن دخول تميم و إلا لما جئنا هنا اليوم.
أنا قلق على دخوله و إلا لما انتابني هذا الهذيان
الآن.
هل يستحق أمر دخولنا كل هذا القلق؟
ألا يبدو قلقي سخيفا و مخجلا إذا قورن بعذابات شعبي
المزمنة؟ ماذا لو دخلنا أو منعنا أو اعتقلنا أو حتى متنا هنا؟ أليس الفلسطيني محاطا
بالموت؟ أليس عذابه على حدوديات الديكتاتوريات العربية و في مطاراتها متكررا و عاديا
إلى حد الابتذال؟ هل يقارن قلقي التافه هذا بهدم بيت على رؤوس سكانه في جنين أو غزة؟
ما الذي أشكو منه هنا إذن؟ أريد أن أجعل من لحظة هذيان عابرة تاريخا باقيا. لا يسمع
بنا أحد إلا و نحن تحت أنقاض البيوت و قذائف ال 16F، نتعذب عذابا مدويا و جماعيا
و نصرخ على شاشات الدنيا. نحن لسنا جثثا فقط و لم نختر أن نكون. أريد أن أتعامل مع
مشاعري القليلة الشأن التي لا يسمع عنها العالم أبدا، أريد أن أؤرخ لحقي في القلق العابر
و الحزن البسيط و الشهوات الصغيرة و الأحاسيس التي تومض في القلب لمحا ثم تختفي. أنا
لا أقول إن قلقي مبرر و لا أعتذر عنه. إنه قلقي و كفى. أنا أتحدث عنه كما هو. لا أريد
شيئا من أحد. لا أستغيث و لا أريد عونا و لا تعاطفا بل أريد أن أتحسس داخلي لأعرفه
و أصغي لصوت نفسي فأسمعه و أريد أن أؤرخ لما لن يؤرخه أحد نيابة عني. أريد أن أنقش
أصغر مشاعري بإزميل على حجر بجوار الطريق.
أكذوبة
يقال إن الوقت ثمين و لا أصدق ذلك، فكثيرا ما نضيع
الوقت عن طيب خاطر، بل إننا نتلهف على الإجازات و العطلات و نسعى لتوفير أي قسط من
الكسل و نتفنن في إهدار الوقت بلعب الورق و مشاهدة التلفزيون و التسكع بين المقاهي،
البشر في الحقيقة لا يزعجهم تبديد الوقت، أظن أن ما يزعجهم أكثر من أي وقت آخر هو
"انتظار تبدده".
الميزان المائل
ضبطنا عدونا في لحظة تخلف تاريخي. كأننا لم نع ما
حدث قبل حدوثه و لا لحظة حدوثه و ربما لا نعيه الآن بعد حدوثه. أم أننا وعينا و نعي،
لكننا أضعف من أن نعدل الميزان الذي مال؟ و هل سيظل ميزاننا مائلا إلى الأبد؟ إلى بعض الأبد؟ إلى متى بالضبط؟ إنه الغموض. إنه
غموض موجع كعضة الذئب.
أقول لنفسي : نحن لم نخسر فلسطين في حرب بحيث نتصرف
الآن كمهزومين، و نحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق بحيث نستردها بالبراهين.
ضبطنا تاريخنا في لحظة كنا فيها في قاع الضعف. في
قاع النعاس.
بوسعنا الآن أن نقول لأطفالنا إن النعاس لن يظل
نصيبهم إلى الأبد و لا إلى بعض الأبد.
لكن علينا أن نعترف لهم و لأنفسنا قبلهم بأننا مسؤولون
أيضا. جهلنا مسؤول، قصر نظرنا التاريخي مسؤول، و كذلك صراعاتنا الداخلية، منطقنا العائلي
القبلي، و خذلنا عمقنا العربي المكون من دول معجبة بمستعمريها إلى حد الفضيحة. لكن
لا يجوز لنا أن نجعل هذا سببا للصمت. يجب أن نكسر حالة الإنكار التي يواجهنا بها العالم.
سنحكي الحكاية كما يجب أن تروى. سنروي تاريخنا الشخصي فردا فردا، سنحكي حكاياتنا الصغيرة
كما عشناها و كما تتذكرها أرواحنا و أعيننا و خيالاتنا. لن نترك التاريخ تاريخا للأحداث
الكبرى و للملوك و الضباط و كتب الرفوف ذات الغبار. سنقص وقائعنا الفردية و سيرة أجسادنا
و حواسنا التي تبدو للغشيم سيرا تافهة و مفككة و بلا معنى. المعنى مرسوم فينا، فردا
فردا، نساءا و رجالا و أطفالا و شجرا و بيوتا و شبابيك و مقابر لا يعزف أمامها السلام
الوطني، و لا يتذكرها مؤرخ قلمه أعمى.
لسنا سياحا
لا أعرف إن كانت دهشتي مبررة عندما طلب مني تميم
أن ألتقط له صورة فوتوغرافية تحت يافطة هذا الشارع: "طريق الآلام" و تحتها
بالانجليزية Via Dolorosa
و فوقها كلمتان بالعبرية. كان من المستحيل أن أقف "لأتصور"
بالكاميرا هنا أو في أي مكان آخر في القدس. كان "طريق الآلام" شارعا نمر
منه، مجرد شارع ضيق نقضي فيه أشغالنا و احتياجاتنا، أو نمر منه إلى ما يجاوره... كان
"التاريخ" شارعا و دكانا و حلوى و أحذية و مدارس و عشبا عنيدا على الجدران،
مشاجرات مراهقين و شهوات ممكنة أو عصية، لا معلما تلتقط عنده الصور. كان التقاط الصور
شغلة السياح و الحجاج اليابانيين و الأوروبيين و الأمريكان. لا "شغلتنا"
نحن.
...
لا يلتقط تميم صورا و لا يطلب منا أن نصوره. و دون
أن يشرح أحد لأحد شيئا قرر الكل فيما يبدو أن الكاميرا ستجعلنا نبدو سياحا إلى الأبد.
ألقينا بها في أقرب سلة مهملات.
تشويه المسافة
من أقسى جرائم الاحتلال "تشويه المسافة"
في حياة الفرد، نعم الاحتلال يغير المسافات، يخربها، يخل بها، يعبث بها على هواه. كلما
قتل الجنود إنسانا اختلت المسافة المعهودة بين لحظة الميلاد و لحظة الموت. يغلق الاحتلال
الطريق بين مدينتين فيجعل المسافة بينهما أضعاف ما تقوله خرائط الجغرافيا. الاحتلال
يرمي صديقي في السجن فيجعل المسافة بينه و بين غرفة معيشته تقاس بالسنوات و بأعمار
أبنائه و بناته الذين سيأتون له بأحفاد لن يراهم. يطارد الاحتلال رجلا واحدا في الجبال
فيجعل المسافة بين نعاسه و مخدته تقاس بعواء الذئاب، و عتمة الكهوف، و تصبح أوراق الشجر
مائدته الوحيدة. يعلمه كيف يحول حذاءه و الحصى إلى مخدة تحت رأسه، يتشابك فوقها الحلم
و الكابوس. جندي الحاجز يصادر أوراقي لأني لم أعجبه لأمر ما فتصبح المسافة بيني و بين
هويتي هي المسافة بين غضبه و رضاه. يقف جندي الاحتلال على بقعة يصادرها من الأرض و
يسميها "هنا" فلا يبقى لي أنا، صاحبها المنفي في البلاد البعيد، إلا أن أسميها
"هناك".
أحلام بسيطة
نعم، الأزمات الوجودية الطويلة إلى حد الملل، و
الاعتداءات اليومية الممتدة على اتساع عشرات السنين، تحبس ضحاياها في "الأحلام
البسيطة"، كحلم الانتقال من رصيف الشارع إلى رصيفه المقابل بسلام، وصول الطفل
إلى مدرسته الابتدائية و العودة منها بحافلة المدرسة لا على أكتاف رفاقه المذهولين،
التسكع الآمن على الشاطئ، الحلم بتوفر البنج في المستشفى، و كوب الماء عند العطش، الحصول
على تصريح بزيارة الابن المعتقل، الثرثرة السخيفة في المقهى، النجاح في تجديد جواز
السفر، التمكن من دفن الجدة في مسقط رأسها، البقاء خمس دقائق إضافية بجوار الحبيب و
الحصول على إذن جندي مراهق يعلك اللبان بمرور السيدة إلى مستشفى الولادة قبل أن تضطر
أن تلد مولودها تحت أقدام المراهقين بالزي العسكري. و للتذكير فقط أقول لمن يريد أن
يسمع، إن الأحلام تصبح أكثر "خطورة" عندما تكون أحلاما "بسيطة".
تسمية جهنمية
آلة الدمار الإسرائيلية طردتهم من غرب فلسطين فلجأوا
إلى شرقها.
فأي تفكير جهنمي أدى إلى أن يسمى "شرق فلسطين"
"الضفة الغربية"؟
تفتح خريطة فلسطين التاريخية فتجدها تقع بين البحر
الأبيض المتوسط غربا و نهر الأردن شرقا. احتلت العصابات الصهيونية فلسطين الغربية الواقعة
على ساحل البحر المتوسط فلجأ بعض سكانه إلى فلسطين الشرقية الممتدة حتى نهر الأردن.
و لأن المطلوب محو اسم "فلسطين" من الخريطة و من التاريخ و من الذاكرة، نسبت
هذه المنطقة إلى نهر الأردن فسميت باللغة العربية و بكل لغات العالم "الضفة الغربية"
و هكذا اختفى اسم "فلسطين" نهائيا من كل خرائط الدنيا.
فإذا كان غرب البلاد أصبح اسمه "إسرائيل"
و شرقها أصبح اسمه "الضفة الغربية" فأين تقع فلسطين؟
هكذا لكي تضيع فلسطين أرضا كان يجب أن تضيع لغة
أيضا.
و أنا كلما سمعت كلمة "الضفة الغربية"
أفكر بخطورة التلوث اللغوي المقصود الذي أدى بالفعل إلى اغتيال اسم "فلسطين".
صراع على الحكاية
إن أقسى درجات المنفى أن لا يكون الإنسان مرئيا.
أنا لا يسمح له بأن يروي روايته بنفسه. و الشعب الفلسطيني يرويه أعداؤه و يضعون له
التعريف الذي يناسب حضورهم و غيابه. يلصقون على جبينه الوصمة التي يريدون. مسموح للطرف
الأضعف في أي صراع أن يصرخ، مسموح له أن يشكو، مسموح له أن يبكي، و لكن ليس مسموحا
له أن يحكي حكايته أبدا. الصراع على الأرض يصبح صراعا على الحكاية. و شيئا فشيئا يكتشف
الضعيف أن عدوه لا يأذن له بأن يكون "مظلوما". العدو يأذن له أن يكون
"مخطئا" فقط. و ناقصا فقط، و يستحق الألم لأنه يجلبه لنفسه نتيجة نقصانه
و عيوبه هو لا نتيجة لسلوك العدو. و هذه أقسى حالات غياب العدالة. و غياب العدالة منفى،
و التنميط منفى و سوء الفهم منفى. و بهذا المعنى فإن الشعب الفلسطيني كله منفي لأن
حكايته غائبة.
عرفات
لم أكن راضيا عن كثير من سياساته و لا عن قبلاته
المتبادلة مه الحكام العرب و ميله إلى تنفيذ إملاءاتهم و استعانته بعناصر سيئة لخدمة
قضية تستحق أن يستعان بأفضل عناصر شعبنا لخدمتها، لكني رغم ذلك كله كنت شأني شأن الشعب
الفلسطيني كله لا أرى في أخطائه أخطاء المجرم بل أخطاء الضحية. كان يواجه من الصعوبات
ما لا يحمله جبل.
أقول لنفسي في ما يشبه النقد الذاتي:
هذا قائد حركة تحرر في المنفى يحيط به عشرون نظاما
عربيا يرونه خطرا عليهم، يتمنون فشله، يتحالفون مع أعدائه، يمنعونه من القول و الفعل
و الحركة، في أحيان تكررت، يرفعون في وجهه السلاح و يطاردون كوادره و فدائييه من الأردن
إلى لبنان إلى اليمن و ليبيا و سورية و السودان حتى حشرت الثورة كلها في "فندق
سلوى" في تونس. كان يداري و يواري و يجامل و يقدم تنازلا هنا ليكسب نقطة هناك
و كان بالضرورة يخطئ، مرة أخرى خطأ الضحية لا خطأ المجرم. ها هو يعيش هنا في
"المقاطعة" تحت قصف الدبابات الإسرائيلية و في ظل تخلي كل الحكام العرب عنه،
و كيف أن بعضهم يرفض الرد على مكالماته الهاتفية، فأشعر أنه يخصني.
أنا المواطن البسيط الذي لم أؤيد سياساته أتنعم
في "أجمل بقاع الريف الانجليزي" و هو في حصاره الطويل في حاجة إلى نصف علبة
سردين، و هو بين أيدي أطبائه في حاجة إلى جرعة هواء، و هو في كفنه في حاجة إلى مترين
من الأرض في مدينته القدس، لعل ترابها يضم إلى ذاكرتها جسده القصير و حكايته الطويلة. لكنه أيضا "الرئيس" العربي الوحيد الذي قال "لا"
لرئيس أقوى دولة في العالم، و رفض التنازل، و مات موتا ملتبسا لن يتضح إلا عندما يحقق
علم السموم و بحوثها تقدما عظيما يكشف الأسرار.
رآه البعض أبا. و لم أره "أبا" على الإطلاق.
أنا من الأساس لا أحب للزعيم أن يكون "أبا" و لا أحب للمواطنين أن يكونوا
"أبناء" و لا أحب للوطن أن يكون "عائلة".
لكن طريقته في الموت البسيط كانت أكثر تعقيدا من
أن أمر عليها كسنة مكررة من سنن الحياة. هنا مقدار من لوم الذات و من بعض الندم على
مواقفي السابقة، و هنا مقدار من الحيرة في تحديد إرثه التاريخي و في تسمية دقيقة لما
سيبقى منه للتاريخ.
الحجاب
ليس الورع أشهر ما يميز البراغثة لكن معظم نساء
العائلة الآن يرتدين الحجاب بما في ذلك اثنتان من زوجات أشقائي الثلاثة. و هن بنات
خالي عطا بالإضافة إلى بعض بناتهن أيضا. أنا لا أدين ارتداء الحجاب و لا أدين من تقرر
أن ترتديه. ما أدينه هو اعتبار الحجاب ماركة مسجلة للإيمان و برهانا على التقوى و الصلاح
و حسن الأخلاق. الحجاب زي، و الزي لا يبرهن شيئا و لا ينفي شيئا. أما النقاب فهو مخالفة
جنائية. لماذا؟ لأن المرأة المنقبة التي لا تظهر ملامح وجهها أشبه بسيارة تسير في الشوارع
بدون لوحة أرقام.
الوجع و الإلهام
يقولون إن الوجع الدائم يشكل باعثا على الكتابة،
و لا أصدق هذا الهراء. الوجع يشكل عائقا للكتابة أحيانا. أعد نفسي شاعرا مقلا في نهاية
المطاف و أعجب لأولئك الذين ينشرون أربعين أو خمسين ديوانا بحجة أن "معاناتهم"
مستمرة. الوجع التاريخي عبء على القصيدة، لأن تاريخيته تعني أنه مزمن، و كل مزمن ممل،
من التهاب الرئة إلى التهاب القوافي. وصل الوجع الفلسطيني من الاحتلال، و الوجع العربي
من الديكتاتورية، حدا معطلا للشعر. ما يسمى بالشعر "الوطني" يتكئ في معظمه
على البلاغة و الفصاحة. و الفصاحة قد تهز التاريخ لكنها لا تحمي الجغرافيا.
صناعة الخوف
في الديكتاتوريات، أفضل الصناعات الوطنية و أكثرها
إتقانا و متانة و تغليفا و سرعة في التوصيل إلى المنازل، هي صناعة الخوف.
سوف نراهم، رضوى و أنا، بعجز، يهبطون بتميم درج
العمارة، و سلاحهم مصوب إلى ظهره.
السلطة الباطشة هي ذاتها عربية كانت أو إسرائيلية.
القسوة هي القسوة و الانتهاك هو الانتهاك أيا كان الفاعل.
المؤلم هو غياب آلية قانونية واضحة لما بعد الاعتقال.
هو ولد في مصر لأم مصرية و تعلم في مدارسها...حين
يعتقلونه مع مئات الطلاب ستطالبه سلطات الأمن المصرية كأجنبي و "تنصحه" بمغادرة
البلاد.
يضطر تميم إلى مغادرة مصر.
ما ترسخ لدي من تلك الواقعة هو عجزي عن حماية ابني.
أسهل الحلول
دخلت العقد السابع من عمري و لم أسجن في حياتي إلا
لأيام قليلة في بلد عربي يحكمه ديكتاتور عربي و ليس في سجن إسرائيلي. لكن فكرة السجن
ما زالت تحيرني. السجن في عقل الديكتاتور تجريد لا تفاصيل، فكرة لا حيثيات، فكرة لا
تتطلب برهانا و لا دليلا. و لأن إصدار الأمر بوضع الناس في السجن هو الحل الوحيد الذي
لا يحتاج إلى ذكاء فإن السجن في خيارات الديكتاتور هو أول الحلول، أسهلها، و أضمنها.
و الديكتاتور لا يغير رأيه ما دام في كرسيه، إنه يغير رأيه في مكان آخر. في العالم
الآخر مثلا، لا أقل. عرش الديكتاتور رأيه. يستيقظ هو و رأيه في نفس اللحظة (شوف الصدف!)
و لا يفارقه طوال ساعات اليوم، لا يفارقه طوال ساعات الحكم، التي هي ساعات عمره كله.
آمال
This comment has been removed by a blog administrator.
ReplyDeleteThis was a helpful and straightforward post. I really appreciate your effort. Explore the article of Geometry Dash Unblocked for tips that are easy to remember. If you haven’t tried Geometry Dash yet, you’re missing out. The music and colorful levels make it a must-play for anyone.
ReplyDelete