قرأت مؤخرا كتيبا ينطبق عليه
بجدارة
المثل القائل "خير الكلام ما قل و دل"، فالكتاب بالرغم من
صغره، استفز عقلي و مشاعري و أناملي لأكتب عنه و أناقش ما طرح
فيه من أفكار. و هذا ليس بغريب على كاتبه الذي يمتاز بأسلوب مميز و يخاطب قراءه بكل سلاسة و صدق. إنه كتاب "أدرينالين" للكاتب أحمد خيري العمري.
يتناول الكتاب محورا واحدا
تدور حوله مجموعة من الأفكار و الخواطر، و هذا المحور الرئيسي يمكننا أن نلخصه في
كلمة واحدة هي "التمعر". فما هو التمعر؟
يستهل الكاتب كتيبه بعتاب
لصديق. هذا الصديق اشتكى للكاتب من تداخل خط هاتفه مع خط فتاة لعوب كانت تقضي
الليل بطوله تتحدث على الهاتف لأغراض غير شريفة، و أثار هذا غضب ذلك الصديق ليس
لأنه استنكر ما تفعله هذه الفتاة و إنما لأن ذلك كان يشوش على
شبكة الإنترنت في بيته! هذا الموقف جعل الكاتب يتذكر حديثا قدسيا سيؤدي بنا
مباشرة إلى
مفهوم التمعر.
يقول الرسول صلى الله عليه و
سلم في الحديث القدسي :
أمر رب العزة عبده جبريل أن
يخسف الأرض بقرية عم فيها الفساد. فراجعه جبريل ليستفهم قائلاً: إن بها عبدك
الصالح فلاناً.
فقال له رب العزة : به فابدأ.
فاستغرب جبريل : لماذا يا رب؟
فقال الله تعالى : إن وجهه لم
يتمعر يوماًَ فيّ.
من هنا نفهم أن التمعر هو ذلك
الشعور بالغضب من مشاهدة المنكر و الغيرة على حدود الله و إنكار معصية الله تعالى
في ملكوته. و قد يكون إحساسا يعصر القلب و يعكر مزاجه أو تعبيرا بالوجه أو حركة
تدل على الاستنكار. و هو الخط الفاصل بين المسلم الذي قلبه ما زال حيا ينبض و يتفاعل و ينكر و بين المسلم الذي إذا
رأى منكرا لم يحرك فيه ساكنا و بقي على جموده و برودة دمه.
و بالرغم أن الهم الأساسي
للكاتب كان التمعر في حد ذاته، حيث أعطى أعذارا لبعض من لا يقدرون على نصح الٱخرين
أو تغييرهم، إلا أنه حث مرارا و تكرارا على محاولة التفاعل مع محيطنا و التحلي
بالإيجابية و روح التغيير و الشعور بالانتماء للدين. كما حذر أن يصبح الصلاح في
مجتمعنا هو الانزواء في ركن ضيق لعبادة الله دونما اهتمام بالٱخرين و مخالطتهم و
الصبر عليهم. فليس المتدين من يحس بالراحة و الدعة و الهدوء، و إنما المتدين هو من
يعاني في سبيل إعلاء راية دينه و يتألم لرؤية الفساد و يحاول تغييره فيفشل فيعيد
الكرة لأن هذه هي رسالته في الحياة و لأن الدنيا دار شقاء و تعب و الراحة الأبدية
في الجنة التي لا ندخلها إلا إذا أحسنا عملا.
و أنا في هذا كله أتفق مع
الكاتب كل الاتفاق، و لكني أعتقد أن بعض الأفكار في الكتاب تحتاج إلى توضيح و
مناقشة حتى لا تفهم بشكل خاطئ فتستغل في غير محلها.
أولا
التمعر كما أسلفنا الذكر هو
ذلك الشعور بالغضب عند رؤية المنكر، و لكن هل يكون هذا الغضب دائما في الله تعالى
و مخلصا له أم أننا قد نشرك به أحدا دون أن نشعر؟
و لنضرب مثلا أبا متدينا من كبار المنظرين في التربية و الأخلاق و المستنكرين لما
يفعله أبناء الآخرين من أخطاء و معاصي، و لنفرض أنه ابتلي بابن عاص بعيد عن الله، ماذا
سيكون شعوره في هذا الموقف؟ هل سيحاول تغيير ابنه حبا فيه و
رغبة في هدايته و الأهم من ذلك ابتغاء مرضاة الله؟ أم أن هدفه سيكون حفظ ماء وجهه
أمام الناس و تفادي الإحراج أمامهم و عدم الظهور بمنظر الضعيف أو المربي الفاشل ؟
فالنية كما نعلم أبلغ من العمل، و عند محاولتنا مساعدة الٱخرين يجب أن نحذر من
مداخل الشيطان و أن نجدد نيتنا حتى تكون خالصة لله تعالى وحده.
ثانيا
يقول الكاتب:
إذا تركزت دوافعك على شخص
واحد، تكاد غيرتك عليه أن تقتلك أنت قبل أن تقتله هو، و أنت تراه غافلا منهمكا في
المعاصي بعيدا عن الله و عن طريقه..
إذا حدث هذا لك، فتمسك به
أيضا، فقلما يحدث ذلك.
و إذا حدث لك ذلك، فاعلم أنه
سبحانه و تعالى قد اختارك أنت ذاتك لتنقذ شخصا ما من النار..
و هذه في نظري كلمات تحتاج
لأن نقف عندها، خاصة و أن الكاتب أعادها في كتابه مرارا و لكن بصيغ مختلفة. و
الخوف هنا أن يظن البعض أن كل من يقوم بمعصية فإن مصيره النار، لأنه ببساطة يعمل
عمل أهل النار، أو أن نظن أننا نحن الهداة الذين سيخرجون الناس من جهنم ليدخلوهم
إلى الجنة. منذ متى كنا متصرفين في مصائر الناس؟ و من أعطانا الحق حتى نقول عن هذا
من أهل النار أو ذاك من أهل الجنة؟ ألم تدخل مومس الجنة لأنها سقت كلبا عطشا؟ ألم
يخبرنا الرسول صلى الله عليه و سلم عن ذلك المجاهد الذي لم يصبر على ألم الطعنات
فقتل نفسه في حين اعتبره الجميع شهيدا في سبيل الله؟ من نحن حتى نقرر ما سيكون
عليه أي شخص؟
نحن هنا لمساعدة الناس لا للحكم عليهم و علينا الحذر كل الحذر من
الكبر الذي أخرج إبليس من رحمة الله. أما الجزاء و العقاب فهو بيد الله تعالى الذي
يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و هو العليم بذات الصدور.
ثالثا
قد يعتقد البعض أن الغاية قد
تبرر الوسيلة، و قد يندفع فيحاول هداية شخص ما بكل الطرق لأنه خائف على مصيره، و
هذا يحدث غالبا عندما نحاول مساعدة شخص قريب منا، فنفقد توازننا و نلغي روح المنطق
و نخرس صوت العقل و نجعل مشاعرنا تتحكم فينا، بل و نتمنى لو أن عندنا جهاز تحكم نضغط فيه على زر ليتغير ذلك الشخص و يهتدي.
و إننا ننسى بذلك أو نتناسى أن مشوار
الهداية قد يكون صعبا محفوفا بالمكاره و أنه علينا أن نتحلى بالصبر و المثابرة و
نحافظ على تركيزنا و نستعمل الوسائل المناسبة حتى لا يكون تأثيرنا على ذلك الشخص
عكسيا و لكي ننجح في مساعدته.
و مثلنا الأعلى في ذلك الرسول
صلى الله عليه و سلم الذي ناداه ملك الجبال و اقترح عليه أن يطبق على الكافرين
الأخشبين و لكن الرسول صلوات الله عليه رفض عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد
الله. فدعونا نتعلم من رسولنا الكريم الصبر على الناس و الحلم و التحلي بالأمل و
حسن الظن بالله القادر على كل شيء.
رابعا
تلك النظرة على وجهك أذهلتني،
لقد صار الأمر حقيقيا إذن. ليست مجرد صلاة. لقد بان ذلك على وجهك. إنها الهداية
إذن..
و أذهلني ذلك. لقد كنت طرفا
في ذلك، لقد استعملني الله عندما أراد أن يهديك..
العالم غير عالم يا صديق.
الناس غير الناس. و الهواء غير الهواء.
أقول لك، و أقسم بالله أنه قد
حدث فعلا : لقد خشيت على نفسي..
و لا أدري كيف أكملت طريقي
إلى المسجد. لم أكن أمشي، كنت أطير.
لم أكن أتنفس، كنت ألهث من
النشوة.
لقد امتلكت هذا العالم،
امتلكته.
بل أكثر.
قرأت في الكتاب هذه الأسطر،
فانتابني الخوف لوهلة، و تساءلت : لماذا قد يفرح الإنسان لهدايته شخصا ٱخر؟ فوجدت
حالات عدة.
أولها أن يفرح لأن الله استخدمه لمساعدة ذلك الشخص، و لكن أليس هذا الاستخدام تكليفا لا تشريفا؟ ألا يجب علينا بالأحرى أن
نقلق و أن نخاف أن لا نقوم بواجبنا على أكمل وجه؟ و هل يمكن أن نتأكد من أننا نحن
السبب المباشر لهداية ذلك الشخص؟ أليس من الممكن أن يكون هناك ظروف أخرى أعانته
على التوبة، كأنه قام بعمل صالح جعل الله ينعم عليه بالهداية؟
و السبب الثاني لفرحنا قد يكون
اعتقادنا أننا قمنا بعمل صالح نستحق عليه الأجر و الثواب، و هنا أيضا يجب أن
نتساءل: هل كان عملنا حقا كاملا متقنا خالصا لوجه الله تعالى لا تشوبه شائبة؟ ألا
يمكن أن نكون قد أخطأنا في وسط الطريق؟ بالطبع يجب أن نحسن الظن بالله، و لكن
دعونا نتأمل هذا الحديث الذي رواه الترمذي :
عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ
عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ": قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ
الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ
الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا
يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ".
و لننظر إلا الفاروق رضي الله
عنه الذي كان يخاف النفاق على نفسه، ويسأل حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيقول : هل عدني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فيقول لا.
بعد
هذا كله، أليس علينا أن نوجل و نخاف بدل أن نفرح؟
ربما يعتقد البعض أني أبالغ،
و لكني لم أطلب منكم عدم الشعور بالفرح، إني أطلب أن نصحح نيتنا حتى في الفرح،
قد نفرح لأن ذلك الشخص قد اهتدى بغض النظر عمن قام بهدايته، قد نفرح لأن الناس
يتوجهون إلى الله تعالى، قد نفرح لأن الفساد قد قل و الهداية انتشرت، و لكن لا
نفرح لأننا نحس أننا أصحاب فضل في ذلك، فنعجب بأنفسنا و نعتبر أنفسنا هداة، بل يجب
أن نتواضع لله، و نفرح فرحا متزنا يدفعنا للمضي قدما للقيام بأعمال أخرى.
ٱمال